فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}.
كلام مستأنف، مسوق لتوطين قلوب المؤمنين، ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم، بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج، ليتفرغوا إلى أداء مناسكه. كذا قاله أبو السعود. وسبقه الرازي إليه. والأولى أن يقال: إنه طليعة لما بعده من الإذن بالقتال، مبشرة بغاية النصرة والحفظ والكلاءة والعاقبة للمؤمنين. تشجيعًا لهم على قتال من ظلمهم، وتشويقًا إلى استخلاص بيته الحرام، ليتسنى لهم إقامة شعائره وأداء مناسكه. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} أي: في أمانة الله: {كَفُورٍ} أي: لنعمته بعبادته غيره، فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم. وصيغة المبالغة فيهما، لأنه في حق المشركين، وهم كذلك ولأن خيانة أمانة الله وكفران نعمته لا يكون حقيرًا، بل هو أمر عظيم.
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} أي: يقاتلهم المشركون. والمأذون فيه محذوف، لدلالة المذكور عليه. وقرئ بكسر التاء {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يقولوا رَبُّنَا اللَّهُ} أي: بغير حق سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين، لا موجب الإخراج والتسيير. ومثله: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} [المائدة: 59]، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم.
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} أي: لولا كفه تعالى المشركين بالمسلمين، وإذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين، لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها.
قال ابن جرير: ومنه كفه تعالى ببعضهم التظالم، كالسلطان الذي كف به رعيته عن التظالم بينهم ومنه كفه تعالى لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق. ونحو ذلك. وكل ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض. لولا ذلك لتظالموا. فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيعهم، وما سمى جل ثناؤه. والصوامع: مباني الرهبانية لخلوتهم. والبيع: معابد النصارى. والصلوات: روي عن ابن عباس أنه عنى بها كنائس اليهود. سميت بها لأنها محلها. وقيل هي بمعناها الحقيقي. وهدمت: بمعنى عطلت. أو فيه مضاف مقدر: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} أي: ينصر دينه وأولياءه.
قال القاضي: وقد أنجز الله وعده، بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم، وأورثهم أرضهم وديارهم {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور} أي: مرجعها إلى حكمه وتقديره. وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة دعت إلى تعظيم شعائر اللّه ومناسكه، وإلى ذكر اسم اللّه على بهيمة الأنعام، وإلى إطعام القانع والمعترّ منها..
وهذا لا يقوم على تعظيمه والوفاء به، إلّا أهل الإيمان والتقوى- فناسب هذا أن يذكر ما للمؤمنين المتقين عند اللّه من فضل وإحسان، وأنهم جند اللّه، يدافع اللّه عنهم، وينصرهم..
ـ وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}.. إشارة إلى أن المؤمنين معرضون للابتلاء من أعداء اللّه، الذين يكيدون لهم، ويريدونهم على أن يكونوا معهم، وألا يخرجوا عن طريقهم. ولَكِن اللّه سبحانه وتعالى {يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} فيربط على قلوبهم، ويثبت أقدامهم على طريق الهدى، ويمدهم بالصبر على احتمال المكروه.. وهذا أشبه بالدروع الحصينة التي تتكسر عليها ضربات أهل الباطل والكفر.. إنها أمداد من اللّه، وأدوات من أدوات الدفاع.. ثم ينتهى الأمر بانحسار جبهة الضلال، واندحار أهله، وغلبة الإيمان وانتصار المؤمنين: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [21: المجادلة].
وأنت ترى. أن دفاع اللّه عن المؤمنين، إنما يكون والمؤمنون في مواطن الإيمان، وفي ميدان المعركة.
وهذا يعنى أن المؤمن الذي يستسلم لعدوّ اللّه وعدوّ المؤمنين، لا يكون في ميدان المعركة، ومن ثمّ فلا يكون من اللّه دفاع عنه، إذ لا معركة قائمة بينه وبين عدوّه..
ومن هنا، كان واجبا على المؤمن الذي يطمع في دفاع اللّه عنه، ألا يلقى السلاح.
من يده، وألا يفرّ من الميدان.. سواء أكان ذلك ميدان حرب، أو ميدان رأى، ودعوة إلى اللّه..
ـ وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}- هو تهديد للكافرين، الذين خانوا عهد اللّه وميثاقه الذي واثقهم به وهم في أصلاب آبائهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالوا بَلى شَهِدْنا} [172: الأعراف].
ثم إنهم بعد هذا قد كفروا بما جاءهم من آيات اللّه على يد رسله، وكذبوا بها..
فهم لهذا في معرض السخط من اللّه.. {لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} [174: البقرة].
قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}..
أذن لهم: أي أبيح لهم القتال، دفاعا عن النفس..
أي أن اللّه سبحانه وتعالى، قد أذن المسلمين الذين بدأهم أعداؤهم وأعداء اللّه بالقتال- قد أذن لهم أن يقاتلوا، وأن يدفعوا يد البغي والعدوان عنهم..
فهذا قتال مشروع، بل إنه واجب، إذ كان فيه تقليم لأظفر الطغيان وخضد لشوكة الطغاة.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} [179: البقرة] ويقول: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} [194: البقرة]..
أما الاستسلام للبغى، والسكوت على الظلم، فهو تمكين للشرّ، وتدعيم لبنائه، وإطلاق ليده، يضرب بها كيف يشاء في مواقع الحق، ومواطن الخير..
إن البغي، والظلم، والعدوان.. كلها وجوه منكرة من وجوه المنكر، ومطلوب من كل مؤمن باللّه أن يدفع المنكر بكل ما ملكت يده، ووسع جهده..
وقتال المؤمنين، والعدوان عليهم، بإراقة دمائهم وإزهاق أرواحهم، هو أنكر المنكر، وإنه لفرض على كل مؤمن أن يردّ هذا المنكر، ويخمد أنفاسه، ويقدم نفسه قربانا للّه في سبيل الدفاع عن دين اللّه، وعن ينابيع الرحمة والخير المتدفقة منه.
ـ وفي قوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} هو تعليل للإذن الذي أذن فيه للمؤمنين بالقتال..
والمعنى: أنه قد أذن اللّه للذين يقاتلون أن يقاتلوا من يقاتلهم، بسبب أنهم ظلموا بالتعدّى عليهم، وبمبادأتهم بالقتال.. فهو قتال دفاع منهم، لا قتال هجوم.. ولهذا، فإنهم مؤيّدون بنصر اللّه، {وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
إذ في يده سبحانه القوى كلها، وإنه لا غالب للّه.. وفي هذا تحريض للمظلوم- وإن كان ضعيفا- أن ينتصف ممن ظلمه، فإنه على وعد بنصر اللّه له.
قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يقولوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلولا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
هو بيان الحال هؤلاء الذين أذن اللّه لهم أن يقاتلوا.. فقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يقولوا رَبُّنَا اللَّهُ}- هو بدل من قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ} فهؤلاء الذين يقاتلون، وأذن لهم في قتال مقاتليهم- هم أولئك المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم ظلما وعدوانا {بِغَيْرِ حَقٍّ}.. فإنهم لم يجنوا على أحد، ولم يكرهوا أحدا على أمر، وإنما كل جنايتهم- إن كانت هناك جناية- هى إيمانهم باللّه، وقولهم ربنا اللّه الواحد، الذي لا شريك له.. فهل في هذا عدوان على أحد، أو ضرر يعود على أحد؟. ولَكِن أهل الضلال والبغي ينظرون بعيون مريضة، ويحكمون على الأمور بعقول فاسدة، فيرون النور ظلاما، والخير شرا، والإحسان إساءة..
ـ وقوله تعالى: {وَلولا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}.. هو إشارة إلى هذا الصدام الذي يقوم بين أهل الشر والضلال، وأهل الخير والإيمان، وأنه لولا أهل الخير والإيمان، ووقوفهم في وجه الضالين والباغين- لما قام للّه دين على هذه الأرض، ولغلب الشر الضلال، ولأنى على كل صالحة في هذه الدنيا، ولخربت بيوت العبادة التي أقامها المؤمنون لعبادة اللّه من {صَوامِعُ} وهي بيوت عبادة الرهبان من النصارى، {وَبِيَعٌ} وهي بيوت عبادة النصارى عامة، {وَصَلَواتٌ} وهي بيوت عبادة اليهود، {وَمَساجِدُ} وهي بيوت عبادة المسلمين..
ومن أجل هذا، فقد أقام اللّه سبحانه وتعالى، في كل ملة، وفي كل أمّة، جماعة مؤمنة، تقيم شرع اللّه، وتحيى شعائره، وتعمر بيوته، وتحتمل في سبيل هذا ما تحتمل من بلاء، في دفع الظالمين، وردع الباغين..
فهذا الصّدام القائم بين الهدى والضلال، وبين المهتدين والضالين، هو سنّة من سنن اللّه، التي أقام حياة الناس عليها، والتي كان من ثمارها أن قامت بيوت اللّه، وعمرت بالمؤمنين الذاكرين اللّه كثيرا فيها..
وفي هذا دعوة المؤمنين- في صدر الدعوة الإسلامية خاصة- أن يكونوا جند اللّه في هذه الأرض، والحماة المدافعين عن دينه، والمقيمين مساجده، والمعمّرين ساحاتها بذكر اللّه فيها..
وفي هذا أيضا إشارة إلى أنه سيكون للمسلمين مساجد، وأن هذه المساجد ستعمر بالمصلين والذاكرين اللّه كثيرا فيها.. وهو وعد كريم من ربّ كريم، لجماعة المؤمنين يومئذ.. وقد تحقق هذا الوعد- وكان لابد أن يتحقق- فملأت المساجد آفاق الأرض، وامتلأت بالمصلين، واهتزت جنباتها بالذاكرين.
قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} هو وعد منه سبحانه وتعالى بالنصر للمؤمنين، الذين نصروا اللّه، وجاهدوا في سبيله.. إنهم نصروا اللّه إذ نصروا دينه، فكان حقّا على اللّه أن ينصرهم، كما يقول سبحانه: َ {كانَ حقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين} (47: الروم).
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} هو توكيد، بعد توكيد لهذا الوعد الذي وعده اللّه المؤمنين بالنصر، إذا هم نصروا اللّه، ودافعوا عن دين اللّه..
وليس وعد اللّه في حاجة إلى توكيد، عند المؤمنين باللّه، ولَكِنه مبالغة في تطمين القلوب، وتثبيت الأقدام، في تلك الساعات التي تزيغ فيها الأبصار، وتضطرب النفوس، حين تلتقى جماعة المؤمنين، في أعدادها القليلة، بحشود المشركين، في جحافلها الجرارة! قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأمور}.
يمكن أن يكون الاسم الموصول: {الَّذِينَ} بدلا من الاسم الموصول في قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} كما يمكن أن يكون بدلا من الاسم الموصول {الَّذِينَ} في قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ}..
وعلى أىّ فإن الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، هم الذين وعدوا بالنصر في قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُه}..
فالذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وهم المهاجرون- هم الذين وعدوا بالنصر، لأنهم نصروا اللّه، فخرجوا من ديارهم وأموالهم، مهاجرين بدينهم الذي هو كل حظهم من هذه الدنيا، والذي باعوا من أجله أنفسهم وأموالهم وديارهم وأوطانهم..
وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}- هو عرض للصورة الكريمة التي سيكون عليها هؤلاء المؤمنون الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وذلك حين ينصرهم اللّه، ويمكّن لهم في الأرض، وتكون لهم القوة والغلب..
إنهم- مع ما ملكت أيديهم من قوة، وما مكّن اللّه سبحانه وتعالى لهم في الأرض من سلطان- لن يكونوا على شاكلة هؤلاء الضالين الذين كانت إلى أيديهم القوة والسلطان، فتسلطوا على عباد اللّه، ورهقوهم، وأخذوهم بالبأساء والضراء، وأخرجوهم من ديارهم بغير حق..
إن هؤلاء المؤمنين، حين يمكّن اللّه لهم في الأرض، سيكونون مصابيح هدى، وينابيع رحمة، للإنسانية كلها، بما يقيمون فيها من موازين الحق، والعدل، وما يغرسون في آفاقها من مغارس الخير والإحسان.. إنهم يقيمون الصلاة، ليستمدوا منها أمداد الهدى من اللّه.. ويؤتون الزكاة، فيكشفون بها الضرّ عن عباد اللّه.. ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. فيصلحون بهذا من سلوك الناس، ويقيمون لهم طرقهم مستقيمة، فلا تتصادم منازعهم، ولا تفسد مشاربهم..
وقد صدق اللّه وعده، ومكن سبحانه وتعالى للمؤمنين في الأرض، فكانوا أعلام هدى، وآيات رحمة، وموازين عدل وإحسان بين الناس..
وكانوا كما وصفهم سبحانه بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [110: آل عمران].
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأمور}.. إشارة إلى نفاد قدرة اللّه، وأنها بالغة الغاية التي قدّرها اللّه لها في هذا المقام، وهي نصر المؤمنين، وإعزازهم، وخذلان المشركين والضالين، وخزيهم..
فعاقبة الأمور، هى ثمراتها الطيبة، إذ كانت الأمور كلها تجرى بأمر اللّه، وتتحرك بمشيئته.. فإذا بلغت غايتها كانت خيرا، وكانت كمالا، وحسنا..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [128: الأعراف] وقوله سبحانه: {وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى} [132: طه]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}.
استئناف بياني جوابًا لسؤال يخطر في نفوس المؤمنين ينشأ من قوله تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله} الآية، فإنه توعّد المشركين على صدّهم عن سبيل الله والمسجد الحرام بالعذاب الأليم، وبشّر المؤمنين المخبِتين والمحسنين بما يتبادر منه ضد وعيد المشركين وذلك ثواب الآخرة.
وطال الكلام في ذلك بما تبعه لا جرم تشوفت نفوس المؤمنين إلى معرفة عاقبة أمرهم في الدنيا، وهل يُنتصر لهم من أعدائهم أو يدّخر لهم الخير كله إلى الدار الآخرة.
فكان المقام خليقًا بأن يُطَمئنَ الله نفوسهم بأنه كما أعد لهم نعيم الآخرة هو أيضًا مدافع عنهم في الدنيا وناصرهم، وحُذف مفعول {يدافع} لدلالة المقام.